ليتني ما جئت إلى هنا أيّها العمّ شهاب!.
ليتني ما مررتُ بحارتنا بعد غياب طويل!.
لقد تداعت فوق رأسي جميع أحجار القلعة العتيدة التي كنت تسيطر عليها أيّام الشّباب والسّطوة!. تساقطت على جبهتي حبّات الصّقيع اللّاسعة برغم شهور الصّيف!، دارت بي الأرض وكأنّني طفلاً مربوطاً من ساقَيه في كلّ مراجيح المولد!.
حين رأيتك يا عمّ شهاب أَدرتُ وجهي بعيداً، فكّرت في لحظة أن أدور على أعقابي، وأُطلقُ ساقيّ للرّيح، لكنّني تسمّرت!. أَبَتْ أجفاني أن تُغلق عدساتها المحملقة، واندفعت نحوك بعيون نَهِمة!.
هل درتُ حولك سبع مرّات؟، لا أعلم، لكنّي فعلت شيئاً يشبه ما يفعله العلماء حين تتعلّق أبصارهم بأنبوب زجاجي يحمل تجربة هامّة، نظرت إليك، وبكيت، ولو لم أَبْكِ في تلك السّاعة لبَقِيتْ بحلقي غصّة ما كان ليشفيني منها سوى الموت!.
فمنذ سنوات كثيرة كان العمّ شهاب جبلاً!، أو هو كالجبل: هو رجل قوي صارم الوجه صلب الإرادة، تقدح عيناه ناراً، وتحت خطواته تهتزّ الأرض.
وأذكر أيضاً أنّه كان عنيداً لا يلين ولا يحيد عمّا نوى!. لكن عقدة حياته كانت تلك الكبرياء القاسية التي جعلته لا يستقرّ في عمل من الأعمال.
فكثيراً ما التحق (بالورش) الخاصّة كعامل ماهر قوي، وكثيراً أيضاً ما خسر عمله أو وظيفته قبل أن يحقّق لنفسه مكاناً لائقاً، إذ لا يكاد صاحب العمل يُبدي تعليقاً لا يروق له، حتّى يكون قد غادر المكان عائداً إلى بيته بعد أن يلعن الأيّام السّوداء التي جعلته أجيراً لدى من لا يتستحقّون!. وكان يُتبِع هذه اللّعنات بالتّهديد والوعيد!.
والواقع أنّه (عمّ شهاب) لم يكن يملك شيئاً ممّا يملكه الموسِرون أو أنصاف الموسِرين في هذه الدّنيا، فلا بيت له ولا حقل، فضلاً عن تلك الحساسيّة المفرطة التي كان يدعوها "الكرامة"، والتي حالت دون ارتقائه أو تقدّمه!.
وتقدّمت الأيّام بالرَّجُل، فَعَلا الشّيب رأسه، وحَنت السّنين ظهره، وأثقلت الحاجة كاهله!.
وفوق ذلك جميعه فقد كسرت المهانة قلبه حين اضطرّته الظّروف القاسية إلى تقبُّل بعض العطايا من فاعلي الخير، ولم تعُدْ له تلك الهيبة القديمة بين رجال الحيّ!.
فلذلك عندما رأيته (عمّ شهاب) منحنياً فوق عصاه وقد انطفأ بريق عينيه، وحين أخرجت كلّ ما بجَيبي ووضعته في يدِ الرَّجُل، كنت أتمنّى ألّا أسمعه يدعو لي أو يشكرني بصوت متهدّج متصنِّع كما يفعل المتسوّلون المحترفون، بل إنّني كنت أتمنّى أن يشتمني الرَّجُل ويُلقي المال في وجهي بكبريائه المعهودة!، لكنّه لم يفعل، بل أَطرَقَ رأسه قليلاً، وسمعته يقول: "يا رب".
وكان الألم قد اعتصر قلبي أنا الذي كنت أهاب الرَّجُل في شبابه!.
قلت لنفسي: كم في الدّنيا من آلام طاحنة تكسر القلب!.
ويا حسرتي على تاجر افتقر بعد سِعة، فتحطّم قلبه، أو أُمّ فقدت فلذة كبدها، أو أرملة كسيرة القلب بعد أن كانت في عيون النّاس محلّ عزٍّ وكرامة، فانسحقت روحها، وذاب قلبها!.
وَدَدْتُ لو طالت ذراعيّ لتحضن جميع المعذّبين، كلّ المنكسري القلوب، لكنّني أدركت أنّ ذراعيّ قصيرتان وأنّني لا أستطيع أن أُجبر كسراً واحداً في قلب محطَّم، ما لم تتدخّل السّماء بفيض من العزاء يُلملم القلب الكسير. وكلّ ما أستطيع أن أقدّمه من حُبّ وحنان لا يقدر أن يشفي جراح المنسحقين، لكن العمّ شهاب عرف الطّريق الشّافي حين قال: "يا رب".
إنّ الله وحده يعالج القلب الجريح،
يداوي الأرواح المنسحقة،
يمسح دموع المنكسرين
ويستخدم الألم في شفاء النّاس من كبريائهم القاتلة.